اتربية الواقعية في السنة النبويةل
من خصائص التربية في السنة النبوية أنها تربية واقعية ، بمعنى أنها قابلة للتحقق في أرض الواقع ،
فالتربية النبوية ليست نظرية عقلية منشؤها خيال جامح ، ولكنها منهج وثيق الصلة بالواقع البشري ،
كما أنها منهج ينزل إلى أرض الواقع ويعالج هذا الواقع ، انطلاقا من طبيعته وظروفه ومعطياته ..
وقد جاء المنهج الإسلامي التربوي واقعيا في كل شيء ، في أحكامه وتكاليفه ، وفي نظرته إلى
المكلف ، وفي نظرته إلى الحياة والتعامل معها ، وفي حلوله الإصلاحية .
والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف المدللة على ذلك وأقتطف منها اثنين للتدليل على هذا المعنى ،
وفيهما إن شاء الله الكفاية والدلالة .
الموقف الأول :
عن أنس رضي الله عنه أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عطاء فقال
الرسول صلى الله عليه وسلم :
" أما في بيتك شيء ؟ "
قال : بلى ، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه ، وقعب نشرب فيه فقال :
" ائتني بهما "
فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال :
" من يشتري مني هذين ؟ "
قال رجل : أنا آخذهما بدرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من يزيد على درهم ؟ "
مرتين أو ثلاثا ، فقال رجل : أنا آخذهما بدرهمين . فأعطاهما إياه ، فأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري
، وقال له :
" اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوما فائتني به "
فأتاه به ، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال :
" اذهب فاحتطب وبع ، ولا أرينك خمسة عشر يوما "
فجاء وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوبا ، وببعضها طعاما
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة سوداء في وجهك يوم القيامة ، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة :
لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع " .
ومن دلائل الواقعية في هذه القصة :
ـ أن الحل جاء بسيطا واقعيا فهو من بيئة الرجل وفي متناول يده .
ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعالج مشكلة السائل بالمعونة الوقتية كما يفكر كثيرون .
ـ ولم يعالجها بمجرد الوعظ والتنفير من المسألة كما يصنع آخرون .
ـ ولكنه أخذ بيده في حل مشكلة بنفسه وعلاجــها من واقعة بطريقة ناجحة .
ونحن لا نقول لكل فقير أو متعطل عن العمل عليك بالاحتطاب كما يظن الجهلاء الذين يتصورون الدعوة
الإسلامية دعوة للرجوع إلى الوراء وركوب الجمال والحمير في زمن الطائرات والسيارات .
فهذه سذاجة في التفكير أو خبث في المقاصد ، ذلك أن الإسلام دين واقعي يتعامل مع الواقع ولا
يصطدم به ، ولا يرفضه إلا إذا كان حراما مضرا بالدين والنفس والمجتمع . أما إذا كانت وسيلة مشروعة
استدعتها ظروف الحياة بتطورها المستمر فلا بأس بها ، والإسلام أول الداعين لها المتعاملين بها .
,’
الموقف الثاني :
روى أبو أمامة أن غلاما شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال :
يا نبي الله أتأذن لي في الزنا ،
فصاح الناس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" قربوه ، أدن "
فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي :
" أتحبه لأمك ؟ "
قال : لا ، جعلني الله فداك ، قال :
" كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ، أتحبه لإبنتك "
قال : لا ، جعلني الله فداك ، قال :
" كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك "
وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة ، وهو يقول في كل واحدة : لا ، جعلني الله فداك
وهو صلى الله عليه وسلم يقول :
" كذلك الناس لا يحبونه "
فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال :
" اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه ، وحصن فرجه "
فلم يكن شيء أبغض إليه منه ، يعني الزنا .
وهكذا نلمس عظمة المنهج الإسلامي في الحل والصلاح ، ونلمس قمة الواقعية ومنتهى الرحمة
في هذا الحل النبوي لمشكلة هذا الشاب الي يتفجر جسده بالشهوة والرغبة في الزنا .
فالنبي صلى الله عليه وسلم يخاطب في الشاب عقله ويثير فيه حميته ، ويرده إلى واقع الفطرة
البشرية وطبيعة النفس الإنسانية والمجتمع الإنساني . ويجعل من الشاب نفسه حكما في القضية
ويجعله ينطق بلسانه الحكم العادل والرأي الصائب ، ليكون ذلك أدعى إلى الاقتناع والانقياد .
( هذا هو الإسلام ، وهذه هي واقعيته في كل مجالاته ، وفي كل أحواله وفي كل تكليفاته ، وفي
كل حلوله . لا يكلف الناس شططا ، ولا يرهقهم من أمرهم عسرا ، ولا يجعل عليهم حرجا ، يحاول أن
يرقى بهم ليصعدوا ويرتفعوا ، ولكنه لا يهملهم إذا هبطوا ، إنه يريدهم أصحاء ، أقوياء ، ولكنه إذا مرضوا
عالجهم وساعدهم حتى يشفوا وينهضوا . إنه منهج الفطرة . منهج الله ، الذي يتعانق فيه الواقع
والمثال )
..
شبكة السنة النبوية وعلومها